تواصل زهران        لا إله إلا الله و حده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شي قدير          

جديد المقالات




جديد الصور

المتواجدون الآن


تغذيات RSS

دروس من الديرة 1
23-02-1431 06:19 PM



عُرف عن منطقة الباحة أنها كانت تمد حاضرتي الحجاز مكة المكرمة والطائف بمختلف المنتجات الزراعية من الحبوب واللوز والأخشاب إلى جانب الثروة الحيوانية فكانت بذلك سلة غذاءٍ لهاتين المدينتين ورافداً اقتصادياً مهماً ساعد كثيرا على ترسيخ الأمن الغذائي الوطني لاسيما خلال فترات الحربين الكونيتين الأولى والثانية. وبجانب تلك المكانة الاقتصادية فقد كانت المنطقة غنية بموروثها الثقافي ونظامها الاجتماعي الذي يتضمن الكثير من التقاليد الجميلة والقيم المحمودة. و لأن الزراعة هي المهنة السائدة لأبناء المنطقة فقد انعكست بشكل ملحوظ يدعو للإعجاب على سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية وأسهمت بشكل واضح في تكوين طباعهم و خلق المزاج العام لديهم، وأود هنا أن أعرج على ما يمكننا استلهامه من دروس يمكن أن تُستقى من طبيعة الحياة لأبناء هذه المنطقة والقوانين والأعراف التي كانت تنظم حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والتي يمكن أن تُعزى بصورة أو بأخرى إلى الزراعة التي امتهنها أهالي المنطقة بشغف واحترافية مشهودتين. ومن العبث محاولة حصر كل تلك الصفات في مقال قصير كهذا المقال فالأمر يحتاج إلى دراسة منهجية يتولاها أهل الاختصاص في العلوم الإنسانية والاجتماعية لكنني سأحاول أن أعرج على بعض منها لعلها تكون حافزاً لمن أراد التوسع والاستزادة من المهتمين بالموضوع.
ولأن الزراعة هي مهنة أهل المنطقة كما أسلفت فان أول ما يتميز به المزارعون صفة التوكل على الله والاعتماد عليه سبحانه حيث نجد من مظاهر ذلك التوكل أن المزارعين في الغالب يبدأون التحضير للموسم الزراعي في وقت مبكر قبل سقوط الأمطار وينتظرون سقوط الأمطار بإيمان وثقة في كرم الله عز وجل ،كما أن المدة التي يتطلبها الموسم الزراعي منذ وقت البذر \" الذرو \" إلى وقت الحصاد \" الدياس\" مرورا بمراحل الري \"السقيا\" و \"الحماية\" ثم \"الصرام\" عزَّز لدى أبناء هذه المنطقة صفة الصبر والأناة وعدم استعجال النتائج ، والذي يتأمل الفارق الزمني بين بداية الموسم ونهايته يدرك تماماً ماذا اعني. ولعلنا نذكر هنا مبدأي التكامل والشراكة التي عادةً ما كان يعقدها المزارعون فيما بينهم فيما يطلق عليه \" العِصب\" ( بكسر العين وتسكين الصاد ) حيث أن الكثير منهم، ولضيق ذات اليد، لم يكن يملك سوى ثوراً واحداً في حين أن الحرث والدمس والسقاية تحتاج إلى \"سانية\" ( أي زوج من الثيران) فيَعمَد المزارع إلى الاتفاق مع مزارع آخر له ذات الظروف فيستخدمان الثورين \" السانية \" بالتناوب في أغراضهم الزراعية المختلفة – الحرث ، الدمس ، السقاية ، الدياس – وهو إجراء تكاملي يطبق اليوم بين كثير من الدول والشركات العالمية لاسيما عند التحضير للمشروعات الإستراتيجية صناعية كانت أو زراعية .
و \"العَملَة\" ( بفتح العين واللام وتسكين الميم) هي فِرَق العمل التي يشكلها أهل المنطقة للمساعدة حيث يجتمع عددٌ منهم من اجل مساعدة احد المزارعين في بعض شئونه الزراعية في جوٍ من التعاون والألفة ونكران الذات الأمر الذي يعكس التكافل الاجتماعي ويعزز العمل بروح الفريق الواحد وحب نجدة الآخرين ومساعدتهم.
و\"النضبة\" التي تُعنى بالتوزيع العادل للثروة المائية حيث أن الماء – بمصدرية الأمطار والآبار- هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه الحركة الزراعية في المنطقة ولقاء هذه الأهمية للماء كان لابد لأبناء المنطقة من أن يضعوا لأنفسهم نظاما يقنن عملية الاستفادة من المياه وتوزيعها بين المزارعين توزيعا عادلا يتناسب ومساحات أراضيهم الزراعية، حيث يتناوب المزارعون على استخدام الآبار لسقيا المزارع لفترات زمنية تتناسب ومساحات المزارع التي يمتلكونها فيما يطلق عليه \"النضبة\" والتي إلى جانب أهميتها في التوزيع العادل لمياه الآبار بين المزارعين تعطي للآبار فرصة الامتلاء مرة أخرى من المياه الجوفية بعد استنفاذ النضبة من قبل أحد المزارعين. ومياه الأمطار يتم تقاسمها بين المزارعين عن طريق مسيال الماء ( أو ما يسمى في المنطقة \"الخليج\" ) حيث يأخذ المزارع حاجته من ماء السيل ثم يقوم بعملية \"كسر الخليج\" أي تحويله إلى مزرعة جاره ، ومن العجيب في هذا الشأن أنه كثيراً ما نجد أن ملكية ماء الخليج تعود إلى أحد المزارعين في حين أن ألأرض التي يسلكها تعود ملكيتها إلى مزارع آخر.
\"لو حسَّب الزّرّاع ما زرع\" وهي مقولة تتردد على ألسن الناس في المنطقة وتعني أنهم لا يستخسرون التكلفة المادية التي يتحملونها من جراء ما يزرعون وهذه المقولة تُجسِّد لديهم روح البذل والعطاء بلا حدود في سبيل تحقيق الهدف حتى وان كان المردود معنوياً أكثر منه مادياً وهي واحدة من صور البذل والجود التي يمتاز بها أبناء المنطقة الذين عرف عنهم المسابقة إلى إكرام الضيف والاحتفاء به. وأخيرا وليس آخرا فان ما يبهر حقاً من خصائص أبناء هذه المنطقة تلك العصامية التي يمتازون بها والتي يُرى أثرها في النهضة الشاملة التي تشهدها المنطقة والتي تنسجم مع طموحات الدولة أعزها الله وتشكل رافدا قويا لجهودها التي تبذل في تنمية المنطقة.
هذا غيض من فيض هذه المنطقة المعطاء وهي صورٌ تستحق الإشادة بها والإفادة منها وهو ما يدعونا إلى أن نستلهم من أسلافنا هذه الصفات الحميدة وأن ننقلها إلى الأجيال القادمة حيث أصبحت الحاجة قائمة إليها مع زحف العولمة وطغيان المادة وإرباك المدنية. فما أحوجنا إلى الوثوق بالله والإيمان به في زمن أصبح فيه الإحجام والخوف من المجهول سمة تلازم الكثير من شباب اليوم. وما أحوجنا إلى الصبر والأناة بعد التخطيط والإعداد والإيمان بأن النتائج ستتحقق بإذن الله وهي مرهونة بإصلاح المقدمات في زمن أصبح الناس يستعجلون فيه النتائج ويرغبون الوصول إليها عن أي طريق وبأي ثمن. ثم ما أحوجنا إلى تعزيز روح التكامل بين أفراد المجتمع في زمن انتشرت فيه ألأنانية القاتلة بين الناس والتي أورثت قطيعة طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة. وما أحوجنا إلى إحياء روح \" العملة \" والعمل بروح الفريق الواحد في جو من الإيثار والتضحية وحب المساعدة والنجدة في زمن تفشت فيه الفردية وحب الأضواء وأصبح لسان حال الكثير يقول \" نفسي نفسي\" . وما أحوجنا إلى أن نتعلم البذل بسخاء في سبيل الأهداف السامية دون حسابات المردود المادي ثم ما أحوجنا إلى تعزيز صفة الكرم الذي لا ينبغي أن يقتصر فقط على إقامة الولائم ؛مع نبل أهدافها ، بل ينبغي أن يُعرف ويُشجع بصوره المختلفة الأخرى كحب مساعدة



أ.د.احمد بن علي الخماش

تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 1826



خدمات المحتوى


أ.د.احمد بن علي الخماش
        أ.د.احمد بن علي الخماش

تقييم
1.56/10 (20 صوت)


Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.